الشوق إلى البيت الحرام
الحمد لله ربِّ
العالمين، أنعم على عباده المؤمنين أجمعين من أول الدنيا إلى يوم الدين،
فجعل لهم ساعة للفضل والمغفرة من رب العالمين. سبحانه .. سبحانه!! وسعت
رحمته كل شئ، وغمر فضله كل شئ، ومع ذلك خصَّ عباده المؤمنين بواسع المغفرة،
وبواسع الرحمة، وبقبول التوبة، وبغفران الذنوب، وبستر العيوب، وباستجابة
الدعاء، في المكان الذي اختاره سبحانه ساحة اللقاء في الأرض والسماء.
وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، إلهٌ لا تحدُّه جهات، ولا تلحقه الحركات، ولا
تتناوله من قريب أو بعيد الإشارات. يحيط ولا يحاط به، ويسع كل شئ ولا يسعه
من خلقه شئ، ويقدر على كل شئ ولا يقدر أحد على شئ دونه إلا بإذنه عزَّ وجلَّ. هذا الإله الكبير المتعالي تجلَّى على الأحجار فملأها بالأنوار، وجعلها مكاناً لهطول رحمات العزيز الغفار عزَّ وجلَّ.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه ،وصفيُّه من خلقه وخليله، كشف الله عزَّ وجلَّ
له البيان عن مناسك الحج فأدَّاها كما أنزلها الله على خليل الله، وأبطل
ما أبدله أهل الجاهلية وما جعلوه نسكاً وهو عن نسك الله بعيد، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ فَإِني لاَ أَدْرِي لَعَلي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا}[2].
اللهم صلِّ وسلم وبارك
على مصدر الرحمات الإلهية، وسرِّ التجليات الربانية، ومفيض العلوم
القدسية، سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، الشفيع لجميع خلق الله يوم لا
ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. (أما بعد)
فيا أيها الأخوة
المؤمنون: تهيم القلوب والأرواح في هذه الأيام إلى مهبط الرحمات الذي جهزه
لنا الملك العلام، فكلنا يودُّ أن يذهب إلى تلك الأماكن، ويملأنا الشوق
ويعاودنا الحنين حتى أن بعضنا من شدة شوقهم إذا ناموا يرون أنفسهم في تلك
البقاع يطوفون، أو يسعون، أو يقفون، لأن الجميع يشتاق إلى بيت الله عزَّ وجلَّ. وقد ذكرني ذلك بقول سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنهما
- عندما كان يحجُّ ذات مرة، وأخذ يزاحم على الحجر حتى دمى وجهه، وحتى
تورمت أصداغه، فقال له بعض من حوله: يا عبد الله لم هذه المزاحمة وقد أغناك
الله عن هذا، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شدة المزاحمة؟ ماذا قال رضى الله عنهما؟
قال: (هويت إليه القلوب، فأحببت أن يكون فؤادي معهم)، أى أن هذا المكان
اشتاقت إليه القلوب، فوددتُ أن يكون قلبي معهم بين يدي مقلب القلوب عزَّ وجلَّ.
هذا حال المؤمنين ممن
اختارهم الله لزيارته، كلهم شوقٌ وحنين، وحبٌّ وأنين، خاصة مَنْ أسمعه الله
نداءه على لسان الخليل، فقلبه مملوء بالشوق، وفؤاده لا يستقر في مكانه،
لأنه هائم هيام دائم في بيت الله عزَّ وجلَّ. لماذا هذا الحنين؟!! ولماذا هذا الشوق؟!!
هذا لأن الله يقول: ] إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِّلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ4[(96 - 97آل عمران) .
إن أول بيت وضع للناس في الأرض هذا البيت. كيف تم ذلك؟ عندما أهبط الله آدم عليهالسلام،
ونزل في سرنديب في بلاد الهند، ونزلت الجدة حواء في جدة - وسميت بهذا
الاسم لأنها هبطت بها - وأخذ يدعو الله ويستغيث بالله، كما تقول إحدى
الروايات ثلاثمائة عام، وهو يبكي أسفاً على ما فرط في جنب الله، وعلى
النعيم والمقام الكريم الذي حُرم منه بعد أن أهبط إلى الأرض. وفي هذا الندم
والأسف نزل عليه الأمين جبريل عليهالسلام ووجهه إلى هذا البيت الكريم، وقال له: (يا آدم، اذهب إلى البيت وطف حوله يغفر الله لك).
فجاء آدم عليهالسلام
من بلاد الهند ماشياً - غير أن الله بقدرته كان يطوي له الأرض حتى وصل إلى
البيت، وكان البيت ليس كهيئته هذه، وإنما صخور مرتفعة بناها الملائكة عليهم السلام - فطاف حوله، وهو أول من طاف بالبيت من البشر - وإن كان البيت لا يخلو من طائف في لحظة من ليل أو نهار، فقد ورد في الأثر: { لا يخلو هذا البيت من ستمائة ألف يطوفون به كل يوم وليلة فإذا لم يتموا العدد من البشر أتمه الله من الملائكة }. هذا المكان منذ أن خلقه الله وهو مكان للرحمات، ومهبط للبركات، يُذهب الخطايا ويأتي بالفضل من الله عزَّ وجلَّ للزائرين وللسائلين، وللعاكفين وللركع السجود.
هذا البيت في أي بلد؟ ] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [(96آل عمران)،
لِمَ لَمْ يقل الله مكة؟!! هي مكة، وبكة، وأم القرى، وهي البيت الحرام.
وقال الله: (بكة)، لأن الله آلى على نفسه أن يبك (يدق) أعناق الجبابرة
الذين تسوِّل لهم أنفسهم أن يعتدوا على حرمة البيت. فهي بكة لأنها تبك
(تدق) أعناق الجبَّارين الذين يريدون أن يؤذوا الطائفين والعاكفين ببيت رب
العالمين عزَّ وجلَّ.
وإذا كانت الحيوانات والطيور تتأدب مع بيت الله عزَّ وجلَّ - كأنها فهمت قول الله ]وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا3[ (97آل عمران) -
وأخذت على نفسها العهد ألا تؤذي أحداً من أجناسها!! فقبل الإسلام - ولم
يكن للبيت سور يحيط به، ولا أبواب تغلق - فكانت الحيوانات المتوحشة يجري
بعضها إثر بعض ليقتنص فريسته، فإذا جرت الفريسة ودخلت حدود الحرم وقف الوحش
بدون حراك، كأنه يعلم أن هذا حرماً، وأن هذا مكاناً آمناً!!!
وأنتم تحفظون جميعاً
قصة ( فيل أبرهة ) عندما كانوا يوجهوه جهة الشام فيمشي، وجهة اليمن يمشي،
أما جهة البيت فيصرخ!!! فيحموا الأسياخ في النار وينخسونه بها فلا يتحرك،
لأنه يعلم شدة عقاب الله لمن يجترئ على ساحة فضل حرم الله عزَّ وجلَّ!!!!
حتى أن الحيات وهي العدو اللدود للإنسان - لا تؤذي إنساناً في الحرم، ولا
تروع إنساناً في البلد الأمين والطيور كذلك تقف على المصلين، وتطير ذات
اليمين وذات الشمال، ولكنها تطوف كما أمر الله عزَّ وجلَّ المؤمنين بالبيت - لو نظرت إليها لا تجد طائراً يعلو البيت الحرام، إلا إذا كان به مرض، فالحمامة التي تمرض يلهمها الله عزَّ وجلَّ أن شفاءها في الوقوف على ظهر البيت للحظات، فتصعد على ظهر البيت وتقف عليه للحظات فتشفى بأمر الشافي عزَّ وجلَّ.
أما الحمامة السليمة فإنها تطوف حوله كما يفعل المؤمنون، وكما تفعل
الملائكة، وكما فعل النبيون والمرسلون أجمعون، والكل ينفذ أمر رب العالمين:] وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ (29الحج)، لابد أن يطوفوا بهذا البيت.
ولذا عندما ذهب أسعد الحميري بثلاثمائة ألف من جنده إلى البيت - وقد كان سبق له الهداية من رب العالمين - صدَّه الله عزَّ وجلَّ
عن البيت، مع كثرة عدد جنده!! فما كان منه إلا أن نطق بالإسلام، وطاف
بالبيت وكساه الديباج والحرير، فكان أول من كسا البيت بعد أن كان زاهداً في
هذا البيت، لأن الله تعهد ببكة أن تبك كل جبار يحاول أن يعتدي على البيت.
حتى أن الحجاج عندما
حاصر ابن الزبير، وأمر جنوده أن يقفوا على جبل أبي قبيس في مواجهة الكعبة
ويضربوه بالمنجانيق - وهي آلة كالمدفع إلا إنها تقذف قذائف مصنوعة من
القماش وفي وسطها البارود وإذا نزلت تحدث حرائق كبيرة - فأطلق المنجانيق
على البيت وأشتعلت النيران، وإذا بسحابة تأتي من جهة جدة على قدر البيت
فتقف قبالة البيت، وتنزل الماء فتطفئ النار التي أشتعلت في كسوة البيت، ثم
تأتي صاعقة فتخطف الثلاثين رجلاً الذين قذفوا هذا البيت وتنهي حياتهم في
لمحة!!! ولكنه من شدة جبروته جاء بآخرين، وقال لهم: لا يهولنكم الأمر - أي
لا تخافون - فإنها أرض صواعق، فجاءت سحابة أخرى فاختطفتهم أجمعين!!! فرجع
عن كيده للبيت بعد أن يئس منه، لأنه علم أن الله عزَّ وجلَّ يحفظه بحفظه، ويكلؤه بكلاءته.
] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ[(96آل عمران).
ولكي نعرف الفرق بينه وبين المسجد الأقصى عندما تحدث الله عن الأقصى جعل البركة حوله: ]ُسُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ[ (1الإسراء)، والبركة حوله في الأنبياء الذين كانوا حوله، والصالحين الذين كانوا حوله، ولكن الله عندما تحدث عن هذا البيت قال: ]مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [، هو في ذاته مبارك، وهو في ذاته هدى للعالمين، لأنه لا يذهب إليه إنسان إلاَّ وتحيطه بركة الحنان المنان عزَّ وجلَّ!!!
فلو ذهب إليه تائب يتوب الله عليه، ولو أتاه سائل يجيب الله له كل
المسائل، ولو ذهب إليه راج يحقق الله له كل رجاءه، ولو ذهب إليه عابد يرجع
بعبادةٍ لا عدَّ لها ولا حصر لها!!! يكفي أن كل صالحة فيه تعدل مائة ألف
فيما سواه، الركعة فيه بمائة ألف ركعة فيما سواه، والتسبيحة فيه بمائة ألف
تسبيحة فيما سواه، والصدقة فيه بمائة ألف صدقة فيما سواه، حتى قال العلماء:
لو صلى رجل صلاة واحدة جماعة في بيت الله الحرام كانت أفضل في الأجر
والثواب له من أنه لو عاش عمر نوح في بلده يعبد الله عزَّ وجلَّ
قيل له: وكيف ذلك؟!! قال: الصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة، وصلاة الجماعة
تزيد على صلاة الفرد بسبعة وعشرين درجة، فحاصل ضرب المائة ألف في سبعة
وعشرين يكون رقم كبير، وعمل كثير، لا يستطيع الإنسان أن يقضيه هنا ولو
أعطاه الله عمر نوح عليه السلام.
هذا البيت يقول فيه صلى الله عليه وسلم: { يُنَزِّلُ
اللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى حُجَّاجِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ عِشْرِينَ
وَمِائَةَ رَحْمَةٍ: سِتِّينَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ
وَعِشْرِينَ لِلنَّاظِرِينَ }[3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: { مَنْ أَتَىٰ هَـٰذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ }[4].
وقال صلى الله عليه وسلم: { التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[5].
أو كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
يتبع