المرأة والكتابة
كينونة وذات… أم تمرد على الحياة؟
بقلم: سعاد درير
في حوار مع الكاتب والصحفي أحمد منصور، ضمن برنامج "علمتني الحياة" الذي بثته قناة المحور الفضائية منذ أشهر، ذكر الكاتب والصحفي المتميز أن الكتابة تستغرق منه وقتا طويلا. والشيء نفسه يقال عن القراءة. وذكر أيضا أن الكتابة تجبره على الانعزال عن الآخرين - في مكتبه -، سواء أكان بعيدا عن أسرته خارج الوطن الأم، أم كان يقاسمها البيت نفسه، مما جعله يعترف بنبرة - لا تخلو من ألم – بأن الكتابة كثيرا ما تأخذه عن بيته وأبنائه.
حين نسمع مثل هذا الكلام تبدو لنا المسألة عادية وطبيعية، ونتفهم طبيعة عمل هذا الصحفي المتألق بوصفه منتجا للأفكار، خصوصا وأن نجاح كتاباته وأسلوب حواراته وتغطياته – كما هو الشأن في تغطيته لحرب العراق – يبرر أي تقصير في حق أسرته، ويُتَوُِّجه بتقدير جماهيري قَلَّ نظيره. وفي تتويجه تتويج للكلمة الصادقة والهادفة.
لكن هل تبدو المسألة عادية حين نتحدث عن امرأة تشغل المنصب نفسه وتضطلع بالوظيفة نفسها وتحرز الأهداف نفسها؟!
الكتابة فعل يسبقه فعل آخر هو القراءة. فنحن لا نكتب من فراغ، وإنما انطلاقا من وبناء على قراءات. وكما أكد الصحفي نفسه فإنه يعكف أحيانا على قراءة عدد ضخم من الكتب التي تلقي الضوء على هذه الشخصية أو تلك، أو هذا الموضوع أو ذاك، قبل أن يجري حوارا ويكتب…
ويحضرني في هذا المقام ما قاله كاتب لا أذكر اسمه، ومفاده أنه لا يكتب إلا بعد أن يقرأ، ولا يتوقف عن القراءة إلا بعد أن يمتلئ رأسه ويشعر أنه لم يعد قادرا على حمله. حينها فقط يضطر إلى تفريغ بعض ما قرأه. وحين ينتهي من عملية التفريغ يعود إلى القراءة مجددا وعملية شحن أخرى.
إذا كان هذا واقع الكتابة، فمن أين للمرأة العربية بكل هذا الوقت حتى تتمكن من كتابة شيء في المستوى على غرار ما يفعل زميلها الرجل؟
من أين لها بالظروف المشجعة على الكتابة وهي المسؤولة عن بيت وعن أبناء وعن زوج قد لا يتسامح دائما إن صدر عنها أي تقصير؟ خصوصا وأن عادات المجتمع العربي وتقاليده ونظرته إلى المرأة – والمرأة الكاتبة تحديدا – تختلف عن نظرة المجتمع الغربي إليها… ولعل أبرز مظاهر الاختلاف تكمن في التسهيلات التي تُتَاح للمرأة الكاتبة (غير العربية) من قبل الزوج، والأسرة أو العائلة، والمجتمع، ولا تُتَاح للكاتبة العربية.
أم تغض المرأة العربية الطرف عن كل الإكراهات وتغلق عليها باب غرفتها وتكتب؟ ههنا نجد أنفسنا أمام إكراه آخر وهو مشكلة الغرفة على رأي الأمريكية فيرجينيا وولف V. Woolf التي ألحّت على ضرورة أن تكون للمرأة الكاتبة غرفة خاصة.
وحتى إن وجدت المرأة العربية هذه الغرفة، كيف تكتب وذهنها مشغول بالزوج والأولاد؟ ولنفترض أنها تنشغل عنهما بأفكار الكتابة، من يضمن لها أنها ستجد الجو المريح للعزلة والكتابة؟ من يضمن لها أن لا أحد من الأبناء والزوج سيفسد عليها خلوتها ويقطع حبل أفكارها بطلب أو عتاب أو حتى مجرد فضول…؟
هذا في حالة ما إذا توفرت لها الغرفة أصلا، لأنه ليس من المعقول أن تنثر المرأة أوراقها ومسوداتها في كل ركن من البيت، وإلا ستفسد ترتيب البيت أولا، وتعرض أفكارها للضياع ثانيا… وحتى إن نجا نتاجها الفكري من الضياع على يد طفل عابث أو خادمة غافلة، فالمؤكد أنها ستعرّض أفكارها للبعثرة، وبالتالي يصعب عليها الرجوع إلى هذه الأفكار للزيادة أو الحذف، ناهيك عن فشلها – ربما – في ترتيبها. ولا يخفى على الكاتب - رجلا كان أم امرأة – أن بين كتابة فكرة وفكرة تضيع أفكار وتتلاشى، لأن الأفكار إما تغيب، وإما تحضر بغزارة فيصعب تجميعها مهما تلاحقت أنفاس الحبر واتسع صدر الورق…
أما إذا تعذر نشر الأفكار حتى على جنبات الأثاث في هذه الغرفة أو تلك، فتلك مصيبة أخرى. مما يضطر تلك الأفكار إلى الاصطدام بسقف المطبخ والسقوط على أرضية المَغْسَل للذوبان مع فقاعات الماء والصابون إن كانت المرأة بصدد غسل الأواني، أو تجبر تلك الأفكار على التحليق في السماء بعيدا بعيدا إن كانت المرأة تنشر الغسيل في الشرفة أو في سطح البيت…
ولا نستغرب بعد هذا أن توصف المرأة التي تبحث عن ذاتها في الكتابة بالمتمردة. حينذاك لا يكون أمام المرأة الكاتبة إلا أن تضحي بقلمها إن كانت مبتدئة، وهذا كثير، أو أن تدخل في سلسلة من الصراعات الاجتماعية التي لا تُحْمَد عقباها والتي تنتهي بالتصدع الأسري بل والانفصال في حالات كثيرة إن كان الزوج متأثرا بالمحيط وغير متفهم لطبيعة العالم الذي تسلّلت إليه المرأة. وهذا لأن الكتابة بالنسبة للمرأة حياة، وإن كانت غالبا بالنسبة للمرأة العربية حياة مدفوعة الثمن من حفيظة استقرارها العائلي والأسري والاجتماعي…
لماذا ننظر إلى المرأة العربية من الخارج فقط كأنها دمية أو عارضة أو آلة للعجن والتفريخ…؟
لماذا لا نوفر للمرأة العربية هامشا للبوح الفكري دون أن تكون مجبرة على تقديم تنازلات؟
لِمَ لا نتفق على أن مساحة الجمال الفكري التي تحتلها المرأة العربية أكبر بكثير وأرحب من حيز جسدي قصير وقاصر سرعان ما يتقلص مع تقدم العمر إلى أن يتلاشى كليا؟
لماذا نغض الطرف عن حقيقة واضحة وضوح الشمس وهي أن الجمال الفكري الذي تتمتع به المرأة أكثر جاذبية من أي جمال جسدي؟
ألا نرى أن جمال الجسد يذبل ويفنى، بينما جمال الفكر لا يتوقف عن النبض إلا مع توقف القلب عن النبض، بل يظل ما تدفق منه خالدا رغم طلوع الروح وفناء الجسد؟
إن النظرة الدونية إلى المرأة العربية وأخلاق تسييد الذكور التي تربى عليها السواد الأعظم من المجتمع العربي هي ما جعل بعض الكتاب والمثقفين المبتدئين يبحثون في شريكات حياتهم عن المرأة التي لا تثير أي جدال فكري مع الرجل، بل التي لا تشغل فكرها أصلا إلا في إنتاج ما يخمد لذة البطن. وفوجئت بأحدهم ذات يوم يؤكد ضرورة ألا يقبل الرجل – الكاتب المثقف – بامرأة يفوق مستواها الثقافي مستوى التعليم الثانوي.
فهل كان مشروع المثقف هذا يسخر من المرأة العارِفة، أم كان يخشى أن تنافسه في النقاشات الفكرية فيخسر بذلك رهان التحدي؟ وذلك لعلمه اليقين بأنها إذا أُفْسِح لها المجال للصعود إلى حلبة القول شفاهة وكتابة فإنها لن تخرج منها إلا غانمة.
حين يبحث الرجل عن عزلة للكتابة يخلف امرأة تسدّ مسدّه، ويثق كل الثقة في جدارتها بالقيام بالبيت والأسرة… لكن هل نتصور أن ثمة رجلا يعفي المرأة من مسؤولية البيت وتفاصيله الصغيرة، ويسمح لها بأن تغلق عليها باب مكتبها بالساعات إلى أن تنتهي من إنتاج أثر أدبي أو قراءة كتاب؟ هل نتصور أن ثمة رجلا يهيئ لها الجو المناسب للكتابة ويمنع أطفاله من إثارة الضجيج الذي قد يشتت أفكارها ويضايق تفكيرها؟ هل نتصور أن ثمة رجلا يُحَضِّر - أو يأمر بتحضير - فنجان القهوة لها في الوقت الذي يتداعى فكرها ويحنّ إلى منشّط…؟
مؤكد أن هذه الأشياء غير واردة بالمرة وغير مستساغة في مجتمعنا العربي، بل ترفضها العقلية العربية كليا، لأنها تعودت على النظر إلى المرأة في مجالات محصورة جدا تحصر وظيفتها في تربية الأطفال ورعايتهم والسهر على راحتهم وراحة الزوج… باستثناء عدد ضئيل من النساء اللواتي نجحن في اختلاس الوقت والنفس، وإن ظل واقع الحال يشهد بالتفوق دائما للرجل، لأن المرأة العربية لم تلحق بعد بركب أدونيس ونجيب محفوظ وغيرهما من أعلام وعلامات الثقافة العربية…
فمتى تقطع المرأة العربية خطوات – يُعْتَدُّ بها - على طريق الكتابة دون احتساب رسوم التضحيات وتشظيات الذات على هامش حفرة موت بطيء تسمى الحياة تحت غطاء التمرد والانكسارات؟؟؟