الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فنسأله عز وجل أن يجعلنا ممَن يدرك حقيقتها فيرعاها حق رعايتها، رجاء حفظها مع أداء واجبها .
النعم الإلهية علينا، تسمو على الحصر والعدِّ، وذكرها من دلائل الشكر والحمد، وهذا الشكر مبني على أركان ثلاثة :
1. الاعتراف بها باطناً. 2. التحدث بها ظاهراً. 3. تصريفها في مرضاة وليِّها.
إذا كان للعبد بيت يؤيه، وطعام يكفيه، فهو أغنى من 75% من سكان العالم.
وإذا كان للعبد مال في جيبه، واستطاع أن يوفر منه شيئاً لوقت شدة فهو واحد من 8% من أغنياء العالم.
وإذا كنت قد أصبحت في عافية، فإنَّ هناك مليون إنسان لن يستطيعوا أن يعيشوا لأكثر من أسبوع بسبب أمراض داهمتهم.
قال الله تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
فمن يحصي نِعَم المنعم المنان؟
وفي سورة لقمان قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان:20]. فهناك إذاً نعمٌ ظاهرة معروفة، وأخرى باطنة لا يمكن للعين أنْ تراها.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: (إن الله عز وجل قال هذا منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، فإنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم، وما خلق الله فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد وجعله إياها له سقفاً محفوظاً، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة لا يمكن أن يراها البصر لكن البصيرة تراها، وأما النعم الظاهرة فإن البصر يراها والبصيرة أيضاً). وعلى العبد أن يتفكر ..
أعضاء في الجسم زرعها الله تعالى في العبد، تؤدي وظائف لخدمته، فهل وعيناها وتفكرنا فيها؟
إن أكثر النعم -مع أسفي- منسية، فإذا كان العبد قد تناسى النعم الملازمة له، فكيف بهذه النعم التي اختفت عن بصره؟
ولهذا وضعتُ هذه الكلمات المتسلسلة تحت عنوان ( نعمٌ منسيةٌ).
منسية ليست لذاتها أو فيما اتصفت به، ولكنها منسية عند المتناسين لها فقط، أولئك الذين لم يفكروا بها، معهم سنتذكر ونذكرهم.
من النعم المنسية هي نعمة الخلق والإيجاد...
نعم، هي نعمة لا بُد علينا أن نتذكرها.. وكيف لا نتذكر نعمة إيجادنا بعد أن كنا عَدَما؟ لم نكُ شيئاً.. فأوجدنا الله تعالى..
فلم نكن في عالم الذكرى.. ولم نكن في عالم الوجود.. وكنا لا شيء.. واللاشيء هو أخس الشيء إذا نفع. وبماذا منَّ الله تعالى على نبيه زكريا عليه السلام؟ منَّ عليه بهذه النعمة فقال له: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } [مريم:9].
فمفهوم النعمة الأولى هو وجودنا على غير مثال سابق، لا أناساً آخرين، ولا أشياء أخر، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]. فلم يكن يعلم الإنسان -وهو يتكبر على الخلائق- أنه لا شيء كان. فهي النعمة، وهي السر الإلهي الداعية نبي البشر للتأمل إذا عقلوا.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر: 67]. فهو سر في الخلق عجيب وفي التدرج في هذا الخلق شيئاً فشيئاً؛ ليدل على عظيم الاعتناء الإلهي بمَن خلق.. ورعاية الخالق العظيم بطريقة الأطوار الفريدة لدلالة الاهتمام.
وكم من نعمة سبقت مرحلة الخروج إلى عالم الحياة؟ ونحن في الأحشاء بعد؟ سخر لك أماً.. طلق ومخاض وتأوُّهٌ وتململ ووقوف وقيام وانزواء ورقاد واصفرار واحمرار، وغيبوبة. سخر لك أباً، شدَّة الموقف ما بين يأس ورجاء، وخوف وهلع، وانتظار واستبشار، وترح وفرح، تحوم الخواطر بالساعات قبل أن يأتي البشير.
وسخر أحبةً من أهل الإيمان، يدعون ويستبشرون. سخر بشراً لا نعرفهم، يعتنون بك بتخصصهم، يظلل كل هذا عناية الله سبحانه وتعالى.. حتى إذا خرجت لعالم الكون توالت عليك النعم متقاطرة أو منهمرة.. فبدأت عناية الله.. أمُّ تبر وثدي يدر.. ولك حرية ولست مكلفاً حتى ترشد.. وبعد الإرشاد تبقى النعم تزداد ولا تنحسر.
فنسأل الباري تعالى المنعم سبحانه أن لا يجعلنا من الناسين نعمه والمتناسين فضله بل من الذاكرين.. آمين. والحمد لله رب العالمين..