عندما رأيته للمرة الأولى رقّ قلبي له ..ظننته شيخاً ضعيفا جاءوا به من الصعيد إبان حملات الإعتقال العشوائي التي كان أمن الدولة ينفذها على طوابير المخابز وصلوات الجمع ومشيعي الجنائز في تسعينيات القرن الماضي .
لم يمضي الكثير من الوقت حتى عرفت أن هذا الكهل العجوز القابع في طرف الزنزانة أحد أساطين الجهاد الافغاني ضد السوفيت .
ورغم صغري وقتها لكني كنت أدرك أنها لحظة فارقة في حياتي لن تتكرر كثيراً حين ترى أحد صناع الحدث الذي ما زال تحوطه علامات التعجب والإستفهام لكني لم أشأ أن أعاجله بالسؤال حتى أطمئن لدينه وعقله !!
وحين سألته ذلك السؤال المر :
كيف أنقلب المجاهدون الأفغان من رفقاء إلى فرقاء ، ومن أخوة إلى أعداء ؟
..
قال وقد اكتسى وجهه بالحزن وعلت على تجاعيده الكآبة :
يا بنيّ أمريكا تعرف عن المسلمين أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم أحيانا...
في بداية الجهاد كنا لا نجد سلاحًا نقاتل به ، كنا أشبه بحركة تمرد تمارس بعض أعمال الشغب في المناطق النائية فتطاردها قوات الشرطة بالسيارات المصفحة وحسب ..
وحين بدأت باكستان توفر الدعم لنا كان دعما ضعيفا يمكننا بالكاد من الدفاع عن أنفسنا لا من مقاومة السوفيت - كانت تقف أمريكا خلف هذا الدعم الباكستاني الضعيف لتختبر به صلابة الحركة ومدي استعدادها لاتمام مقاتلة السوفيت ..وحين تيقنت من هذا فُتح الباب ودخل الشيطان علينا واقفًا على قديمه يحمل العتاد في يد والمال في اليد الاخرى !
اتصلت أمريكا بالمجاهدين وأخبرتهم بنيتها توفير الدعم المالي والعسكري لهم بهدف طرد السوفيت من أفغانستان ..
ويومها كنا ندرك أن مطامع أمريكا ربما تفوق أطماع السوفيت ..وأذكر حين عقدنا جلسة لمناقشة الأمر واتخذنا قراراً بالرفض لأن أمريكا سوف تستخدم هذه المعونة لبسط إرادتها على المجاهدين ..كان الرفض بالاجماع وأبلغنا المندوب الأمريكي بهذا ..
بعدها بدء الدعم الباكستاني يقل تدريجيا ..واستوحش السوفيت في حربهم وإذا بالرد الأمريكي يأتي سهلا بسيطا مريحا من هذا العناء كان الرد بجملة واحدة تقول " يمكنك ان تأخذوا منا الدعم فإذا شعرتم اننا سوف نسئ استخدامه معكم فيمكنكم التوقف وقتها ..نحن لن نجبركم على قبول الدعم "
..
قلت له :
ثم ماذا يا شيخنا ؟
..
ابتسم ساخرًا وقال :
سورة الأنفال نزلت بعد غزوة بدر الكبري التي أعز الله بها المسلمين ..
لكنها لم تنزل لتهلل للمؤمنين على النصر الكبير ، بل كانت أول أيايتها تعالج قضية الأنفال وتعنف المنتصرين أن تكون هذه الدنيا أول همهم بعد النصر وتحذرهم أنها ستكون أول شقُ لصفوفهم ...
وحين جاءت غزوة أحد نسى البعض هذه التحذير فجاءتهم الهزيمة من الباب نفسه "الغنائم والأنفال"
وأمريكا يا بني انتبهت لهذه الحقيقة القرآنية المدهشة حين غفلنا عنها .
حين وصل الدعم الأمريكي المتمثل في أسلحة حديثة متطورة وأموال باهظة تأتي من حلفائها في العالم العربي ودعم ومساندة من الدنيا بأسرها ..
حين اقتحمنا كل هذا تغيرت الجبهة فلم ترجع لما كانت عليه يوما ما
فالمجاهد الذي كان يعمل بالنهار ويجاهد في الليل صار يتقاضي راتباً من قائده على قتاله
والقائد الذي كان في مقدمة الصفوف وسط اتباعه استأجر مكتباً فخماً له في بيشاور بباكستان وتفرغ للقاءات الصحفية وصار يزور الجبهة كما يزور الأحياء موتاهم
وحين اطمأنت أمريكا أن الأنفال سكنت في قلوب الرجال بدأت تتدخل في وضع الخطط وتسّير المعارك ..
وحين همّ بعضهم بالاعتراض ذكرته أمريكا بماضيه الجاف حين كان هنالك على الجبهة يرفل في ثوبه الخشن وطعامه البائس بعيدًا عن الأضواء والمكاتب المكيفة
هي إشارة كفيلة بخضوعه وإذعانه
وفي هذه الفترة لولا أن قيّض الله المجاهدين العرب لأفغانستان لانتهي الجهاد فيها ، فهم وحدهم الذين رفضوا هذا كله وانخرطوا في جهاد حقيقي كان له اليد الطولى في طرد السوفيت
وقتها استدعت أمريكا قيادات المجاهدين الأفغان إلى البيت الأبيض واستقبلتهم بأكاليل الغار ..
وفي هذه الزيارة تم فرز قيادات الجهاد واستبعاد الشرفاء منهم
وتم تشكيل مجلس قيادة موحد ممن تأكدت أمريكا أنهم لن يمنعهم الدين والشرف أن يسلوا سيوف البغي على إخوانهم لأجل "الأنفال "
وكنا كلما اقتربنا من الغنيمة الكبري- إسقاط كابل- كان يسقط من قيم القوم بقدر قربهم من الغنيمة ..
حتى تحالف المسلم مع الشيوعي ضد أخيه المسلم ،
والسني مع الشيعي ضد أخيه السني
والمجاهد مع مجرم الحرب قاتل أطفال ونساء المجاهدين ضد اخوانه المجاهدين ..
وحين سقطت كابل كان كل شيء قد سقط معها ..
وبدأت معركة جديدة على الأنفال
وهرول رفقاء الأمس وفرقاء اليوم على أمريكا كلٌ يعرض نفسه للبيع ..
لكن أمريكا لم تكن تريد منهم المزيد وقد استكفت من العبيد بما فعلوا فتركتهم كالنار يحطم بعضها بعضًا حتى تخمد وتنطفئ ..
وقد كان .
..
قلت :
إذن يا شيخي أمريكا تقرأ سورة الأنفال ؟
قال :
وتحفظها أيضًا .
..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تذكرت هذا الحوار وإرهاصات تبرق في الأفق أن أمريكا تخطط لصراع إسلامي - إسلامي في مصر .
كتبه: خالد حربي .